سورة يوسف - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


نمضي في هذا الدرس مع قصة يوسف، في حلقة جديدة من حلقاتها الحلقة الرابعة وقد وقفنا في نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة. وقد أخرج من السجن، واستدعاه الملك ليكون له شأن معه، هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة.
هذا الدرس يبدأ بآخر فقرة في المشهد السابق. مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن كما رغب إليه يوسف أن يفعل تمحيصاً لتلك المكايد التي أدخلته السجن، وإعلاناً لبراءته على الملأ، قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته؛ وهو يبدؤها واثقاً مطمئناً، في نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة، وفي حياة الدعوة كذلك. فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح، ولا شيء من غبار الماضي يلاحقه وهو بريء.
ومع أنه قد تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئاً، ولم يشر إليها على وجه التخصيص، إنما رغب إلى الملك أن يفحص عن أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فإن امرأة العزيز تقدمت لتعلن الحقيقة كاملة:
{الآن حصحص الحق. أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي؛ إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم}..
وفي هذه الفقرة الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة، تبرئ نفسها من خيانة يوسف في غيبته، ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطلقة، لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ثم تعلن ما يدل على إيمانها بالله ولعل ذلك كان اتباعاً ليوسف {إن ربي غفور رحيم}..
وبذلك يسدل الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق. وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين..
{وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي.. فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم.. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين. ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}..
لقد تبينت للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولا يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلماً، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه؛ ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك..
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:
{ائتوني به أستخلصه لنفسي}.
فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه؛ ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى؛ ولا ليسمعه كلمة الرضاء الملكي السامي! فيطير بها فرحاً.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار واَلنجيّ والصديق..
فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام وهم أبرياء مطلقو السراح فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم؛ ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح- حتى المادي أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء!
{وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي}..
ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك..
{فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين}..
فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من الفتنة فتنة الجوع فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:
{قال: اجعلني على خزائن الأرض. إني حفيظ عليم}..
والأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضروية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيراً كبيراً لشعب مصر وللشعوب المجاورة:
{إني حفيظ عليم}..
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة.
إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.
وهنا تعرض شبهة.. أليس في قول يوسف عليه السلام: {اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم}.. أمران محظوران في النظام الإسلامي:
أولهما: طلب التولية، وهو محظور بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سألهأو حرص عليه». متفق عليه.
وثانيهما: تزكية النفس، وهي محظورة بقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف عليه السلام والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة، الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول..
لا نريد أن نجيب بهذا، وإن كان له وجه، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقاً، وأوسع آفاقاً من أن يرتكن إلى هذا الوجه؛ وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود!
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ!.. لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم؛ إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي..
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتان الدلالة؛ كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي؛ وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة، دون إدراك لهاتين الحقيقتين؛ ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها؛ وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها... الذين يفعلون ذلك؛ ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ؛ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ.. هؤلاء ليسوا فقهاء! وليس لهم فقه بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلاً!
إن فقه الحركة يختلف اختلافاً أساسياً عن فقه الأوراق مع استمداده أصلاً وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها فقه الأوراق!
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره الواقع الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام.
ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركباً لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه!
ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها.. إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!
ونأخذ مثالاً لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله».
لقد نشأ هذا الحكم كما نزلت تلك النصوص في مجتمع مسلم؛ ليطبق في هذا المجتمع؛ وليعيش في هذا الوسط؛ وليلبي حاجة ذلك المجتمع. وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي.. وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي.. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة.. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها يعتبر فراغاً بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح له، ولا يصلحه كذلك!
ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي. وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني..
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة...
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم. كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحداً بالتزاحم عليه اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم. وهؤلاء يجب أن يُمنعوها!
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضاً..
إن الحركة هي العنصر المكوّن لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية..
أولاً: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله على عهد النبوات أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله على مدار الزمان بعد ذلك فيستجيب للدعوة ناس؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة.
فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق م


يئس إخوة يوسف من محاولة تخليص أخيهم الصغير، فانصرفوا من عنده، وعقدوا مجلساً يتشاورون فيه. وهم هنا في هذا المشهد يتناجون. والسياق لا يذكر أقوالهم جميعاً. إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه:
{فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً. قال كبيرهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين. ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق، وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين. واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون}..
إن كبيرهم ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم، كما يذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل. ويقرن هذه إلى تلك، ثم يرتب عليهما قراره الجازم: ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه، إلا أن يأذن له أبوه، أو يقضي الله له بحكم، فيخضع له وينصاع.
أما هم فقد طلب إليهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق. ذلك ما علموه شهدوا به. أما إن كان بريئاً، وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه، فهم غير موكلين بالغيب. كما أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يحدث ما حدث، فذلك كان غيباً بالنسبة إليهم، وما هم بحافظين للغيب. وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها وهي عاصمة مصر والقرية اسم للمدينة الكبيرة وليسأل القافلة التي كانوا فيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتمتار الغلة في السنين العجاف..
ويطوي السياق الطريق بهم، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع، وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع. فلا نسمع إلا رده قصيراً سريعاً، شجياً وجيعاً. ولكن وراءه أملاً لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له. وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع:
{قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم}..
{بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل}.. كلمته ذاتها يوم فقد يوسف. ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.. {إنه هو العليم الحكيم}.. الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب، عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.
هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته.
ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
{وتولى عنهم وقال: يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}..
وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه، فينفرد في معزل، يندب فجيعته في ولده الحبيب. يوسف. الذي لم ينسه، ولم تهوّن من مصيبته السنون، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل:
{يا أسفا على يوسف!}..
ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزناً وكمداً:
{وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}..
ويبلغ الحقد بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم، فلا يسرون عنه، ولا يعزونه، ولا يعللونه بالرجاء، بل يريدون ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير:
{قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين!}..
وهي كلمة حانقة مستنكرة. تالله تظل تذكر يوسف، ويهدك الحزن عليه، حتى تذوب حزناً أو تهلك أسى بلا جدوى. فيوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود!
ويرد عليهم الرجل بأن يتركوه لربه، فهو لا يشكو لأحد من خلقه وهو على صلة بربه غير صلتهم، ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون:
{قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون}.
وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول؛ كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر، ولألائها الباهر.
إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلاً على عودته إلى أبيه، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل.. إن هذا كله لا يؤثر شيئاً في شعور الرجل الصالح بربه. فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور!
وهذه قيمة الإيمان بالله، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين.
إن هذه الكلمات: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب...
والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه مهما بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق!
ولا نملك أن نزيد. ولكننا نحمد الله على فضله في هذا؛ وندع ما بيننا وبينه له يعلمه سبحانه ويراه.
ثم يوجههم يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه، وألا ييأسوا من رحمة الله، في العثور عليهما، فإن رحمة الله واسعة وفرجه دائماً منظور:
{يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}..
فيا للقلب الموصول!!!
{يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه}..
تحسسوا بحواسكم، في لطف وبصر وصبر على البحث. ودون يأس من الله وفرجه ورحمته. وكلمة {روح} أدق دلالة وأكثر شفافية. ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روْح الله الندي:
{إنه لا ييأس من روْح الله إلا القوم الكافرون}..
فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروْحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية، فإنهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق. وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق ومخانق الكروب..
ويدخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة، وقد أضرت بهم المجاعة، ونفدت منهم النقود، وجاءوا ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد.. يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام:
{فلما دخلوا عليه قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مُزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا، إن الله يجزي المتصدقين}..
وعندما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز، والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته. فقد انتهت الدروس، وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال؛ فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم، فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم، ولم يطلع عليه أحد إلا الله:
{قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟}!!
ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئاً من نبراته. ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته. والتمع في نفوسهم خاطر من بعيد:
{قالوا: أَئنك لأنت يوسف؟}..
أئنك لأنت؟! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير..
{قال: أنا يوسف. وهذا أخي. قد من الله علينا. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}..
مفاجأة! مفاجأة عجيبة. يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة.. ولا يزيد.. سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه، معللاً هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء.
أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف، ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسناً إليهم وقد أساءوا.
حليماً بهم وقد جهلوا. كريماً معهم وقد وقفوا منه موقفاً غير كريم:
{قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين}..
اعتراف بالخطيئة، وإقرار بالذنب، وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة والحلم والتقوى والإحسان. يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل. شيمة الرجل الكريم. وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة. إنه كان من المحسنين.
{قال: لا تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين}..
لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم. فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور. والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين.. ثم يحول الحديث إلى شأن آخر. شأن أبيه الذي ابيضت عيناه من الحزن. فهو معجل إلى تبشيره. معجل إلى لقائه. معجل إلى كشف ما علق بقلبه من حزن، وما ألم بجسمه من ضنى، وما أصاب بصره من كلال:
{اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً، وأتوني بأهلكم أجمعين}..
كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة.. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟
ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير.
{ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تفندون!}..
ريح يوسف! كل شيء إلا هذا. فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل. وأن له ريحاً يشمها هذا الشيخ الكليل!
إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تقولوا شيخ خرف: {لولا أن تفندون}.. لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد.
كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير. ومن أين فصلت؟ يقول بعض المفسرين: إنها منذ فصلت من مصر، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد. ولكن هذا لا دلالة عليه. فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان، واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود.
ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف. كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح. وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح. ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون!
ولكن المحيطين بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه، فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف:
{قالوا: تالله. إنك لفي ضلالك القديم}..
في ضلالك بيوسف، وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود.
ولكن المفاجأة البعيدة تقع، وتتبعها مفاجأة أخرى:
{فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه، فارتد بصيراً}..
مفاجأة القميص. وهو دليل على يوسف وقرب لقياه. ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه.. وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه. تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه:
{قال: ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟}..
{قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}..
ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئاً من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح:
{قال: سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
وحكاية عبارته بكلمة {سوف} لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم..
ويمضي السياق في مفاجات القصة. فيطوي الزمان والمكان، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير:
{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وقال: يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم}..
ويا له من مشهد! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.
يا له من مشهد ختامي بالانفعال والخفقات والفرح والدموع!
ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة: ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه:
{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}..
ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه كما رأى الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين:
{ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً}..
ثم يذكر نعمة الله عليه:
{وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}..
ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته:
{إن ربي لطيف لما يشاء}..
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها:
{إنه هو العليم الحكيم}..
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة:
{إن ربك عليم حكيم}..
ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات.
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، والرغد والأمان.
ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر! كل دعوته وهو في أبهة السلطان، وفي فرحة تحقيق الأحلام أن يتوفاه ربه مسلماً وأن يلحقه بالصالحين:
{رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث. فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة. توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}..
{رب قد آتيتني من الملك}..
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.
{وعلمتني من تأويل الأحاديث}..
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها..
{فاطرَ السماوات والأرض}..
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها، ولك القدرة عليها وعلى أهلها..
{أنت وليي في الدنيا والآخرة}..
فأنت الناصر والمعين.
رب تلك نعمتك. وهذه قدرتك.
رب إني لا أسألك سلطاناً ولا صحة ولا مالاً. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى:
{توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه.
إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير..


انتهت قصة يوسف لتبدأ التعقيبات عليها. تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن السورة. وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة، والجولات الموحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي أثار الغابرين، وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم. فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق. وهو ترتيب ذو هدف معلوم.
تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم بعث إليهم. وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة، وقد غبرت بهم القرون. وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه:
{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت من قبله لمن الغافلين} فها هو ذا يعقب على القصة بعد تمامها، ويعطف ختامها على مطلعها:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}..
ذلك القصص الذي مضى في السياق من الغيب الذي لا تعلمه؛ ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيباً بالقياس إليك. وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم، وهم يمكرون ذلك المكر الذي تحدثت عنه القصة في مواضعه. وهم يمكرون بيوسف، وهم يمكرون بأبيهم، وهم يدبرون أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجياً وهو من المكر بمعنى التدبير. وكذلك ما كان هناك من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن.. كل أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سيقت السورة لتثبته من بين ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين، وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة.
ولقد كان من مقتضى ثبوت الوحي، وإيحاء القصص، واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب، أن يؤمن الناس بهذا القرآن، وهم يشهدون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون أحواله، ثم يسمعون منه ما يسمعون. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وهم يمرون كذلك على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها، ولا يدركون مدلولها، كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه. فما الذي ينتظرونه؟ وعذاب الله قد يأخذهم بغته وهم لا يشعرون:
{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين. وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}..
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة.
ولكن الله العليم بقلوب البشر، الخبير بطبائعهم وأحوالهم، ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة المشركة إلى الإيمان، لأنهم كما قال في هذه الآيات يمرون على الآيات الكثيرة معرضين. فهذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان، ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق.
وإنك لغني عن إيمانهم فما تطلب منهم أجراً على الهداية؛ وإن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب، وهي تبذل لهم بلا أجر ولا مقابل:
{وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين}..
تذكرهم بآيات الله، وتوجه إليها أبصارهم وبصائرهم، وهي مبذولة للعالمين، لا احتكار فيها لأمة ولا جنس ولا قبيلة، ولا ثمن لها يعجز عنه أحد، فيمتاز الأغنياء على الفقراء، ولا شرط لها يعجز عنه أحد فيمتاز القادرون على العاجزين. إنما هي ذكرى للعالمين. ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد..
{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}..
والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون، معروضة للأبصار والبصائر. في السماوات وفي الأرض. يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية تخايل للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق.
وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل في الخضم الزاخر، والعين الفوارة، والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية، والبرعم الناعم، والزهرة المتفتحة، والحصيد الهشيم. لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب والنمل الدائب، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام.. لحظة تأمل في صبح أو مساء، في هدأة الليل أو في زحمة النهار.. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب.. إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب، والتأثر المستجيب. ولكنهم {يمرون عليها وهم عنها معرضون}.. لذلك لا يؤمن الأكثرون!
وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك في صورة من صوره إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة تنفي عن القلب أولاً بأول كل خالجة شيطانية، وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف، لتكون كلها لله، خالصة له دون سواه. والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد:
{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}..
مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص.
مشركون سبباً من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله.. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل».
وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي:
روى الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك».
وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم شرك».
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك».
وعن أبي هريرة بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه».
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
وروى الإمام أحمد بإسناده عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء».
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان.
وهناك الشرك الواضح الظاهر، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة. الدينونة في شرع يتحاكم إليه وهو نص في الشرك لا يجادَل عليه والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله. والدينونة في زيّ من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر..
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعاً ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركاً للأمر الواضح الصادر من رب العبيد.
إنه عندئذ لا يكون ذنباً، ولكنه يكون شركاً. لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير..
ومن ثم يقول الله:
{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}..
فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان.
وبعد فما الذي ينتظره أولئك المعرضون عن آيات الله المعروضة في صفحات الوجود، بعد أعراضهم عن آيات القرآن التي لا يسألون عليها أجراً؟
ماذا ينتظرون؟
{أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}..
وهي لمسة قوية لمشاعرهم، لإيقاظهم من غفلتهم، وليحذروا عاقبة هذه الغفلة. فإن عذاب الله الذي لا يعلم موعده أحد، قد يغشاهم اللحظة بغاشية تلفهم وتشملهم، وربما تكون الساعة على الأبواب فيطرقهم اليوم الرهيب المخيف بغتة وهم لا يشعرون.. إن الغيب موصد الأبواب، لا تمتد إليه عين ولا أذن، ولا يدري أحد ماذا سيكون اللحظة، فكيف يأمن الغافلون؟
وإذا كانت آيات هذا القرآن الذي يحمل دليل الرسالة، وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار.. إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون، ويشركون بالله شركاً ظاهراً أو خفياً وهم الأكثرون. فالرسول صلى الله عليه وسلم ماض في طريقه ومن اهتدى بهديه، لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين:
{قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله! وما أنا من المشركين}..
{قل: هذه سبيلي}..
واحدة مستقيمة، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة.
{ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}..
فنحن على هدى من الله ونور. نعرف طريقنا جيداً، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس. فهو اليقين البصير المستنير. ننزه الله سبحانه عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين أشركوا به:
{وما أنا من المشركين}..
لا ظاهر الشرك ولا خافيه..
هذه طريقي فمن شاء فليتابع، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية.
لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي؛ وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضاً!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين.. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس.. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ!
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب!.. إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟
ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته، وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين.. إن محمداً ليس بدعاً من الرسل، ورسالته ليست بدعاً من الرسالات. وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل، آيات معروضة في الأرض.
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا، أفلا تعقلون}..
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب. حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون.. ثم إذا هم ساكنون، لا حس ولا حركة. آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.. إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزاً مهما يكن جاسياً غافلاً قاسياً. ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}..
لم يكونوا ملائكة ولا خلقاً آخر. إنما كانوا بشراً مثلك من أهل القرى الحاضرة، لا من أهل البادية، ليكونوا أرق حاشية وألين جانباً.. وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم..
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}..
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم؛ وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:
{ولدار الآخرة خير للذين اتقوا}.
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار.
{أفلا تعقلون؟}..
فتتدبروا سنن الله في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:
{حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فننجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}..
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله...؟} ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً:
{جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين}..
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.
والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات!.. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً. ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً.
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس.. ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثاً مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضاً ولا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}..
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها، وبين ثناياها، متناسقة مع موضوع القصة، وطريقة أدائها، وعباراتها كذلك. فتحقق الهدف الديني كاملاً، وتحقق السمات الفنية كاملة، مع صدق الرواية، ومطابقة الواقع في الموضوع.
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء، فهي رؤيا تتحقق رويداً رويداً، ويوماً بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة.

1 | 2